
كان هذا الرجل يُدعى صمب يل كي رحمه الله ، ويُلقب بـكونكورد كي، نسبةً إلى الفندق الفاخر الذي أقام فيه عدة أشهر بفرنسا ، إذ استأجر طابقًا كاملًا له ولمرافقيه من الشعراء والفنانين والحاشية. في تلك الفترة، كانت الولائم اليومية لا تنقطع، تُقام فيها أطباق الضفة الشهيرة من مافي، ومارووالحوت وغيرها من الأطعمة الفاخرة.كنت حينها طالبًا في ثانوية كيهيدي، المدينة التي وُلد فيها صمب يل كي. وعندما عاد إليها لأول مرة بعد غيابٍ طويل، انتشرت القصص هنا وهناك تفسّر سرّ ثروته الطائلة ومظاهر الأبهة التي تحيط به.كان من بين تلك القصص، حديث الناس عن خاتمٍ صغيرٍ غامض يقال إنه كان لا يفارقه أبدًا. قيل إن هذا الخاتم منحه قدرةً خارقة على فتح الأبواب المغلقة، واستمالة القلوب، وكشف خفايا الأمور، حتى إن البعض ربط بينه وبين نفوذه الواسع وسلطته التي بلغت رؤساء دول. وكان يحتفظ إلى جانب الخاتم بعصًا صغيرة يُشاع عنها أنها تحمل القوة ذاتها.وقيل أيضًا إن أول اتصال له مع رئيس زائير، موبوتو سيسي سيكو، دار حول أمر عجيب؛ إذ قال له صمب بالحرف الواحد:“لن أتحدث معك إلا عند قبر والدتك.”وقد كان موبوتو يحب والدته حبًا جمًا ويقتدي بها أيما اقتداء، فوافق وحدد اللقاء عند قبرها في ساعة متأخرة من الليل. وكانت المفاجأة حين قيل إن والدته المتوفاة تحدثت إليه مباشرة وأخبرته ببعض الأمور، ثم ختمت حديثها بقولها: “الحل كله بيد صمب يل كي.”وهكذا عاد موبوتو إلى قصره بعد تلك الليلة وأغدق على صمب بالمال الوفير، ووضع تحت تصرفه الطائرة الرئاسية تنقله إلى حيث يشاء.
عودة الزعيم إلى كيهيدي حين عاد صمب إلى مسقط رأسه كيهيدي، كانت المدينة كلها على موعد مع حدث استثنائي. اصطفت الحشود على جانبي الطريق المؤدي إلى المطار، وارتفعت الهتافات بلغتهم البولارية: “ليدي دليه”، أي “الأرض اهتزت.”في كل زيارة له، كانت أخباره تتصدّر المجالس والأسواق. كان ينظم سهرات صاخبة، موثقة بالصوت والصورة، يحييها فنانون من مختلف القوميات الموريتانية، من بينهم عصمان همدي جوب شافاه الله ، الذي لم يفارقه يومًا، إلى جانب فنانين وشعراء آخرين.كان صمب يجلس في مقعد فاخر، صامتًا، لا يتحدث، بينما تدور السهرة كلها حول تمجيده وكرمه. وبين الفينة والأخرى، كان يخرج الأموال الكثيرة من جيبه ويلقيها على الفنانين، وكل ذلك والخاتم في إصبعه لا يفارقه أبدًا، كأنه سر من أسراره التي لا تنكشف. تجوب الكاميرات أرجاء القاعة، توثق كل لحظة وكل تفصيل. وكنّا، بدافع الفضول، نحضر بعض هذه السهرات، فتلتقطنا الكاميرات وسط الحضور.
رحلات في الأجواء
وتأكيدًا لكل تلك الحكايات، ما زال فيديو نادر يوثّق إحدى رحلاته على متن الطائرة الرئاسية لزائير. يظهر فيه صمب محاطًا ببعض الفنانين الذين رافقوه في سفره إلى فرنسا، وهم يحيطون به بالغناء والمديح على أنغام موسيقية، وكأن الرحلة نفسها كانت سهرة طائرة تُمجّد فيها شخصيته وتُخلّد أسطورته.
من كيهيدي إلى نواكشوط وباريس
بعد تلك الأيام الصاخبة، عاد صمب إلى نواكشوط، ثم إلى زائير، ومنها إلى باريس. ويُحكى أنه أهدى للرئاسة الموريتانية في عهد الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع سيارتين رئاسيتين من نوع BMW، تمامًا كما سبقه إلى ذلك الدكتور با بوبكر ألفا الذي أهدى عدة سيارات للهياكل تهذيب الجماهير في عهد الرئيس محمد خونا ولد هيداله.
مشاريعه ومعالمه
في نواكشوط، بدأ صمب تشييد بناية ضخمة على طريق شاطئ الصيادين، عند ما يُعرف اليوم بـ فيراج كونكورد. وقد قيل إن تأسيسها تطلّب نوعًا خاصًا من الصخور نظرًا لملوحة التربة. في الوقت نفسه، بنى فلّتين توأمتين قرب محطة الفوز.أما في مدينته كيهيدي، فقد شيّد مسجدًا كبيرًا على ضفة النهر. وكان يوم تدشينه يوم جمعة مشهودًا، حضره وفد من وزارة التوجيه الإسلامي بقيادة العلامة حمدا ولد التاه رحمه الله. حضرتُ ذلك اليوم مع بعض الزملاء، ولا زلت أذكر كيف امتلأت الساحات المحيطة بالمسجد بالحشود، وكيف ذُبحت عشرات الثيران، وأُقيمت القدور الكبيرة لإعداد الطعام.
لحظة الوفاء لأهل العلم
عندما خرج الزعيم صمب لتحية ضيوفه، بدا واضحًا احترامه العميق لأهل العلم، خاصةً حين سلّم على العلامة حمدا ولد التاه رحمه الله بكل تقدير وإجلال. تعالت الأصوات من حوله بالهتافات نفسها: “ليدي دليه”… “الأرض اهتزت.”وبقي صمب يل كي رمزًا لحكاياتٍ كثيرةٍ يتداولها الناس عن الخاتم والعصا والطائرة الرئاسية، عن الكرم والسطوة والدهشة… حضورٌ مهيب جعل الأرض تهتز في أعين محبيه وخصومه على السواء.وما زال في جعبتنا من حكايته ما يُقال…
يتبع قريبًا.عبيد ربّه المصطفى الشيخ محمد فاضل