فلسفة غزواني (11) : كسرُ دوائر الهيمنة / محمد ولد افو ( رأي)

أحد, 09/11/2025 - 18:06

ليست الهيمنة لحظة تاريخية عابرة، بل بنيةٌ متجذّرة تُعيد إنتاج نفسها اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا. لذلك فإن مواجهتها لا تكون بقرارٍ، بل بمسارٍ ممتدٍ يعيد توزيع الامتيازات، ويُنهي احتكار المجال العام، ويُعيد تعريف الدولة باعتبارها مساحة إنصاف، لا ساحة نفوذ.

في موريتانيا، برز هذا المسار بوضوح في خطاب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني منذ خطاب الأول من مارس 2019  ، وظهرت تلك التوجهات بجلاء في خطاب وادان الذي شكل رافعة رسمية ثم ترسخ في نداء جول بتأكيد الوحدة الوطنية، وتبلور أكثر في نداء النعمة الذي وضع لأول مرة خطوطًا فاصلة بين الدولة والقبيلة، داعيًا موظفي الإدارة إلى الترفع عن أي تمثّل قبلي أو مشاركة في فضاءاته. هذه البيانات السياسية لم تكن خطبًا معزولة، بل إطارًا نظريًا لسياسات تستهدف تفكيك أنماط الهيمنة الأربعة: الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، والثقافية.

أولًا: تفكيك الهيمنة الاقتصادية… من رعي الهشاشة إلى ضمان الحقوق

الهيمنة الاقتصادية في السياق الموريتاني لم تتأسس فقط على تركّز الثروة، بل على عدم تكافؤ فرص الوصول إليها، وتحكّم فئات سياسية واجتماعية محدودة في آلية النفاذ الاقتصادي. 
و لمواجهة هذه الهيكلة المعقدة اتخذت بدأت الإجراءات لقطع العلاقة مع منطق “الدعم العابر” نحو “التمكين البنيوي”حيث تم التوجيه ب : 
    •    إنشاء  وكالة تآزر لتكون أداة تصحيح تدريجي للفوارق بدل أن تكون منصة إعانة موسمية.
    •    تأمين أكثر من 600 ألف أسرة صحيًا، لأول مرة بهذا الامتداد الاجتماعي.
    •    مجانية الحالات المستعجلة والإسعاف
    - إقرار  سقف رمزي لمتابعة الحوامل  والولادات (5000 أوقية قديمة)، في بيئةٍ يشكل فيها العبء الصحي أحد بوابات الفقر الطبقي.
    •    تمويلات المشاريع الشبابية والنسوية، كسرا لاحتكار رأس المال وتمكينا لطبقات لم تكن ضمن المعادلة الاستثمارية.
    •    مشاريع السكن الاجتماعي لإعادة تعريف الحق في المدينة، لا كمجالٍ طبقي، بل كفضاء مواطنة.

الرهان هنا لم يكن تخفيف الفقر كإجراء مؤقت ، بل منع الفقر من التحوّل إلى قدر اجتماعي موروث.

ثانيًا: تفكيك الهيمنة الاجتماعية… حين تتقدّم الأحقية المكتسبة بالمواطنة على الامتيازات الموروثة بالمكانة الاجتماعية.

الهيمنة الاجتماعية ليست فوارق طبقية مجردة، بل منظومة امتيازات تنتقل خارج معيار الكفاءة. هنا يصبح تفكيكها مرهونًا بإعادة ترتيب قيمة الفرص داخل المجتمع:
    •    المدرسة الجمهورية شكّلت انقلابًا على الامتياز الاجتماعي القائم على المحيط الأسري لا الاستحقاق المدرسي.
    •    تخصيص حصص من مدارس الامتياز لأبناء الأسر المسجّلة في السجل الاجتماعي، خطوة تنقل هذه المدارس من فضاء امتياز اجتماعي إلى مساحة أداء اجتماعي عادل.
    •    خطابات وادان، جول، والنعمة، أعادت صياغة اللغة الرسمية للدولة: لا شرعية للهويات الفرعية داخل المرفق العام، ولا شرعية لنفوذٍ يتحصّن بالعُرف بدل القانون.

في هذا المحور، كان الهدف واضحًا: أن لا يرث الموريتاني موقعه الاجتماعي ولا حقه في الامتياز .

ثالثًا: تفكيك الهيمنة السياسية… من تمثيل النخب إلى تمثيل الأجيال

السياسة حين تقع في يد فئة اجتماعية محدودة، تصبح دائرية النفوذ، لا دائرية التمثيل. لذلك جاء التدخل الرئاسي لتوسيع قاعدة المشاركة:
    •    حصة للشباب في البرلمان، ليست تفضيلًا عمريًا، بل كسرٌ لاحتكار الفعل السياسي بنخب مستقرة لا تتجدد.
    •    إطلاق “مأمورية الشباب”، باعتبار الشباب كتلة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تبقى على هامش المساهمة الوطنية.
    - والأهم من كل ذاك هو تجاوز مشاريع الدعم الاجتماعي لحلقات ودوائر النفوذ السياسي ، حيث بدأت العلاقة المباشرة بيت الدولة والمجتمع - و لأول مرة في تاريخ الدولة -دون وسيط سياسي او اجتماعي . 

رابعًا: تفكيك الهيمنة الثقافية… حيث لم يعود التعليم امتيازًا محتكرًا

الهيمنة الثقافية في موريتانيا تتجلى في مستويين:
    1.    احتكار التعليم النظامي المتميز عبر شروط اجتماعية واقتصادية غير معلنة.
    2.    احتكار التعليم الديني التقليدي عبر شبكات اجتماعية مغلقة تعيد إنتاج النخب الثقافية ذاتها.

كلاهما يصنع نخبة ثقافية تُعرَف بالانتماء قبل المعرفة، وتُمنَح الشرعية بالوراثة والاكتساب المقنن طبقيا .

وهنا تأتي سياسات التفكيك:
    •    فتح المدرسة الجمهورية أمام شرائح لم تكن ضمن معادلة الفرص.
    •    تخصيص حصص الامتياز لأبناء الأسر الهشة لكسر احتكار التفوق المدرسي.
    •    والسعي المباشر إلى جعل المعرفة سلطةً مفتوحة، لا سلطةً متوارثة، سواء في منابر التعليم النظامي أو المحظري.

إن مواجهة الهيمنة ليست مسارًا ثوريًا صاخبًا، بل عملية تصحيح هادئة، عميقة، ومتدرّجة:
    •    من اقتصاد يُقصي إلى اقتصاد يُتيح،
    •    ومن مجتمع يُورِّث المكانة إلى مجتمع يمنح الفرصة،
    •    ومن سياسة تُعيد إنتاج الوجوه إلى سياسة تنتج الأداء وتجدد الأدوار،
    •    ومن ثقافة تُحتكَر إلى ثقافة تُكتسب.

وهذا هو المعنى الأعمق لمعركة اليوم في موريتانيا:
معركة تحويل الامتياز من قَدَرٍ اجتماعي إلى فرصة وطنية .
لقد نجًح غزواني في إقحام السياسيات العامة في قلب المعركة التي ظلت لعقود متجاهلة ويتم الحديث عنها بحياء وحذر خلف الكواليس .
لقد نجح في جعل القضية الاجتماعية موضع نقاش عام وحول حدتها إلى طاقة سياسية وتنموية فاعلة .

*محمد افو*

تصفح أيضا...