
انطلاقا من الرؤية المقاصدية القاضية بكون درء المفاسد مقدما على جلب المصالح وكلاهما في رتبة التقديم، كان لزاما علينا قبل الخوض في المضامين الخطابية والبرامج والرؤى الإصلاحية والتدابير المصاحبة لها أن نركز الجهود التوعوية حول بيان خطورة الفساد.
ذلك أن داء الفساد حين يستشري يتحول إلى أكبر خطر يهدد كيان الدولة نفسها، حيث يستنزف مواردها، وينخر مؤسساتها، ويقوض ثقة المواطنين في العدالة والإدارة.
الفساد هو العائق الأكبر الذي يحول دون بناء المدارس وتشييد الطرق وتجهيز المستشفيات على النحو الأمثل.
والفساد ظلم للجميع من ثلة تسطو على مقدرات الأمة فتتراجع قيم الكفاءة والعمل، وتضيع الحقوق وتتوقف التنمية مهما كان حجم الثروات والمقدرات.
فقد أثبتت التجارب عبر التاريخ والجغرافيا أن الأمم لا تتقدم بحجم ما تمتلك من ثروات طبيعية، وإنما بقدرتها على تجسيد العدالة وحماية المال والممتلكات العامة، ناهيكم عن بناء مؤسسات قوية باتباع طرق تسيير شفافة.
غير أن الإرادة السياسية الصارمة والحازمة هي صمام أمان وضامن فعال لمواجهة أساليب الفساد والإفساد بما يقتضيه ذلك من تحديات شهدنا ونشهد حضورها في الرؤية المجسدة لفلسفة الحكم التي تبناها فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
فقد قدم محاربة الفساد كأحد أعمدة مشروعه السياسي في برنامجيه الانتخابيين الطموحين: تعهداتي وطموحي للوطن. ومنذ البداية كانت رؤية فخامة الرئيس واضحة في خطابه بما هذا منطوقه: (الفساد يمثل أكبر تهديد لمسار الدولة، ولا يمكن التقدم خطوة واحدة دون مواجهته).
وقد رأينا التعبير عن هذا الموقف وهذا الخيار في أهم المحطات التي جمعت القيادة بالقواعد الشعبية، وهو ما طرق مسامعنا وصادف هوى في قلوبنا في خطاب التنصيب فاتح أغسطس 2024، وضمن كلمة الرئيس المشهودة أمام الدفعة 46 من خريجي المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء اكتوبر الماضي، وصولا إلى خطابه الأخير التاريخي في جيكني قبل أيام.
في كل هذه المناسبات، ظل الرئيس يؤكد بلا تردد، على خطورة الفساد وضرورة مجابهته بكل حزم وصرامة، داعيا الجميع أغلبية ومعارضة، مواطنين ومؤسسات إلى الانخراط في هذه المعركة الوطنية.
وكعادته في تجسيد الرؤى النظرية المثلى واقعا فقد تحولت هذه المواقف والخطابات سريعا إلى قرارات وإصلاحات ملموسة، إذ شهد هذا العهد خطوات غير مسبوقة لتعزيز الرقابة سبيلا لصون المال العام.
فتمت في العهدة الأولى إعادة هيكلة المفتشية العامة للدولة وإلحاقها مباشرة برئاسة الجمهورية، وتزويدها بالطاقات البشرية والوسائل اللوجستية التي مكنتها من تنفيذ عشرات مهام التفتيش في مختلف القطاعات. وقد أسفرت هذه المهام عن استعادة مبالغ طائلة لخزينة الدولة، وكشف العديد من التجاوزات، وإحالة المتورطين إلى الجهات المختصة.
والأمر نفسه ينطبق على محكمة الحسابات التي نشرت تقاريرها علنا لأول مرة في تاريخ البلاد، وقد شملت التقارير المنشورة حتى الآن عمل سنوات المأمورية الأولى: 2019، 2020. 2021، 2022، 2023 بكل شفافية، وهو بكل تأكيد تحول جوهري إصلاحي في علاقة الدولة بالمواطن.
وقد ترتبت على هذه التقارير عقوبات صارمة بحق من ثبت تورطه في الفساد، وتكررت الإقالات لمجرد وجود شبهات جدية بسوء التسيير.
وعلى مستوى الترسانة القانونية فقد تم تحديث مدونة الصفقات العمومية لتكريس المنافسة الشفافة، وتراجعت نسبة صفقات التراضي أيا كانت مبرراتها من 25% عام 2023 إلى 15% عام 2024، وتم تحديث مدونة الاستثمارات لتقليل الاحتكاك المباشر مع الإدارة ولتحسين بيئة الأعمال.
كما تم تحسين قانون المؤسسات العمومية بما يضمن المزيد من الوضوح في الصلاحيات والرقابة الداخلية.
وطرأ تحول نوعي بسن قانون الشفافية في الحياة العمومية، وهو القانون الذي يلزم فئات واسعة من كبار المسؤولين من وزراء ونواب وقضاة وقادة إداريين وعسكريين بالتصريح علنا بممتلكاتهم ومصالحهم.
إننا نتحدث هنا عن أكثر من خمسة آلاف موظف سام معني بهذا الالتزام على سبيل الإلزام القسري، وهو تطور نوعي غير مسبوق في تاريخ الشفافية ببلادنا.
كما تم كذلك إنشاء السلطة الوطنية لمكافحة الفساد، واختيار شخصية وطنية ذات مصداقية وكفاءة عالية عينت على رأسها، لتصبح جهازا مستقلا مكلفا بالتنسيق والتقييم والإنذار المبكر والمتابعة الدقيقة لسياسات مكافحة الفساد.
لقد وضع فخامة الرئيس، وهو الخبير بشؤون السلم والحرب، معالم خطة الحرب على الفساد بدقة عالية :
تجفيف منابع الفساد، وإصلاح المنظومات التي تسمح بانتشاره، وتقوية المؤسسات التي تحاصره.
ولذلك فكل ما شهدناه، من إصلاحات وهيكلة ونشر تقارير ومحاسبة، هو امتداد طبيعي لتلك الرؤية التي صاغها فخامته قبل توليه قيادة البلد.
بهذا يتأكد لكل مراقب جاد ان فخامة الرئيس محمد الشيخ الغزواني يقود مسارا إصلاحيا متكاملا مدروسا بعناية حيث يضبط قواعد التسيير ويرفع من مستوى الحوكمة في الدولة.
ثم جاءت جولة الحوض الشرقي، التي دامت تسعة أيام، والتي تم خلالها إطلاق البرنامج الاستعجالي لتعميم النفاذ الى الخدمات الضرورية للتنمية المحلية، فحملت مئات المشاريع الحيوية في البنية التحتية منها الطرق والمدارس وغيرها من المرافق الأساسية، حزمة من التدخلات لكل بلدية دون استثناء، بغلاف مالي بلغ 260 مليار اوقية قديمة، فتوجت الجهود بهذا القدر من التدخلات غير مسبوق، ليتم في آن واحد، علاوة على أن هذه الزيارة الرئاسية حملت في الوقت نفسه رسالة أعمق من هذه الإنجازات المادية، فعبرت عن ضرورة الاستثمار في الكادر البشري، حيث إن الإنسان هو الوسيلة والهدف للتنمية وذلك ابتغاء الرفع من مستواه ووعيه وإنتاجيته.
فرؤية فخامة الرئيس تتلخص في أن التنمية الحقيقية لا تقاس فقط بعدد المباني والجسور والمستشفيات والمدارس ولا تقتصر على الإنتاج المادي، بل أيضا بقدرة المواطن على المشاركة الواعية، وفهم حقوقه وواجباته، والمساهمة الفعلية من لدنه في بناء وطنه.
وتجلى ذلك من خلال لقاءاته المباشرة مع سكان مختلف المقاطعات حيث نقل فخامة الرئيس رسالة واحدة مفادها أن الدولة تسعى إلى رفع مستوى التفكير والوعي الوطني، وتمكين المواطن من لعب دوره الكامل في التنمية وصون المصلحة العامة، ونبذ خطاب التفرقة والجهوية والقبلية وأنواع العنصرية المقيتة.
كما عودنا على ذلك في مواقف مشهودة ومشهورة قبل ذلك في ودان وتيشيت وجيول وغيرها.
نخلص إلى أن زيارة الحوض الشرقي إضافة إلى البعد التنفيذي للمشاريع الكبرى المنجزة بالحجم غير المسبوق، فقد كانت أيضا تأكيدا على فلسفة حكم توازن بين الاستثمار في البنى التحتية والارتقاء بالعقليات موازنة بين التنمية المادية والتنمية الفكرية، أي بين الإنسان نفسه معنويا وبين بيئته ومحيطه الذي يعيش فيه.
فالتنمية الحقيقية لا تقتصر على المشاريع المادية والبنية التحتية، بل تشمل أيضا الارتقاء بالجوهر وتعزيز الوعي الوطني وترسيخ المواطنة الفاعلة.
ولنا أن نؤكد على نقطة بالغة الأهمية وهي أن محاربة الفساد قضية وطنية بامتياز، قضية أمتنا الموريتانية الأولى في سبيل التنمية، وليست قضية حزبية أو سياسية ضيقة، ولا ينبغي أن تكون فسادا من نوع آخر ولا أن تستغل لتحقيق الأهداف الخاصة او تصفية الحسابات.
وإن نجاح أي برنامج لمكافحة الفساد يعتمد على توحيد الجهود وتكاملها بين الحكومة والطيف السياسي معارضة وأغلبية، بين البرلمان والمجتمع المدني، وبين المؤسسات الرقابية والجهاز القضائي.
فإذا ظل كل طرف يعمل بمعزل عن الآخر، فإن الرسالة الوطنية تضيع، والفساد يستمر في النمو تحت ستار الانقسام السياسي، فلا بد من الانسجام والتكامل بين الجهود المتضافرة لتحقيق الأهداف المنشودة.
لقد أثبتت التجارب أن الدول التي تتحد فيها القوى السياسية حول الإصلاحات الشاملة والشفافة تحقق نتائج ملموسة ومستدامة. لذلك لا مجال هنا للاختلافات السياسية أو الحسابات الانتخابية؛ فالمصلحة الوطنية العليا تقتضي أن يتحرك الجميع بنفس الاتجاه، من أجل الوطن والمواطن، وهذا ما أكده فخامة الرئيس وكرره وأصر عليه وهذه هي قضيتنا الوطنية الكبري، نكون بعدها أو لا نكون.

